شبكة تهجير مقنّعة… وكيف تحوّلت رحلة “المجد أوروبا” إلى أخطر ملفات الاتجار بالبشر للفلسطينيين

يتكشف يومًا بعد يوم حجم الفضيحة التي هزت الرأي العام الفلسطيني والدولي شبكةبعد وصول 153 فلسطينياً إلى جنوب أفريقيا في رحلة غامضة بدأت من قطاع غزة وانتهت بتفجير أسئلة خطيرة حول طبيعة الجهة التي نظّمتها والأهداف الخفية التي تقف خلفها. القصة، التي بدت في ظاهرها عملية سفر إنساني، انقلبت إلى واحدة من أكثر ملفات التهجير المقنّع خطورة، بعدما تبين أن ما جرى لم يكن إجلاءً، بل عملية تمرير سرية تحمل بصمات شبكة تعمل تحت غطاء إنساني مزيّف.

البداية كانت حين سجّل الفلسطينيون عبر منصة تُدعى “المجد”، ودفع كل واحد منهم ما بين 1400 و2000 دولار على أمل الخروج من غزة المحاصرة. لكن ما كشفه تقرير الجزيرة الإنجليزية قلب الصورة بالكامل، إذ أظهر أن الرحلة كانت منظمة من جهة أخرى تسمّي نفسها “المجد أوروبا”، وهي منظمة تدعي العمل الإنساني، بينما تشير الدلائل إلى أنها واجهة لعمليات مشبوهة تتعلق بالتهريب والاستغلال البشري. هذا الانكشاف دفع جهات تحقيق دولية إلى فتح ملف المنظمة، وسط شبهات تتعلق باستخدام العمل الإغاثي كغطاء لعمليات اتجار بالبشر.

ورغم الضبابية التي أحاطت بكل خطوة من خطوات الرحلة، فإن التقارير الإسرائيلية نفسها أكدت أن الركاب خرجوا من رفح باتجاه معبر كرم أبو سالم، ثم نُقلوا بحافلات إلى مطار رامون داخل إسرائيل، دون أن تُختم جوازاتهم لا دخولًا ولا خروجًا، في خطوة غير مسبوقة تعكس نية متعمدة لإخفاء مسار الرحلة وطمس أي دليل حول الجهة الفعلية التي أشرفت على العملية. وما فاقم الريبة أن المسافرين لم يعرفوا وجهتهم إلا قبل 24 ساعة فقط، وطُلب منهم عدم حمل أي حقائب، قبل وضعهم على طائرة اتجهت أولاً إلى نيروبي ثم إلى جنوب أفريقيا.

وعند وصولهم إلى جوهانسبرغ، تفجرت المفاجأة الكبرى، إذ رفضت سلطات الحدود في جنوب أفريقيا إدخالهم لعدم وجود أختام تدل على حركة دخولهم وخروجهم، ما وضعهم في مأزق قانوني معقد. وبعد ساعات طويلة من الترقب والتوتر، مُنح 130 منهم الإذن بالدخول لمدة 90 يومًا، بينما واصل 23 آخرون رحلاتهم إلى دول أخرى كانت لديهم تأشيرات إليها.

الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا لم يخفِ صدمته مما جرى، إذ قال في تقرير الجزيرة: “أمّتنا فوجئت بالرحلة… هؤلاء أناس من غزة، وُضعوا بطريقة غامضة على متن طائرة عبرت نيروبي وصولًا إلى هنا”. وأضاف أنه رفض إعادتهم رغم غياب الوثائق بسبب الظروف القاسية التي يعيشونها في منطقة حرب، وهو ما يفضح حجم الغموض الذي أحاط بالعملية ويدل على أنها نُفذت دون أي تنسيق رسمي.

لكن شهادات الركاب كشفت ما هو أخطر، إذ أكد بعضهم أن الطائرة أقلعت من إسرائيل بعد نقلهم إليها من غزة، وقالوا إنهم تقدموا بطلباتهم عبر الإنترنت ودفع كل واحد منهم نحو 5 آلاف دولار، ما يعكس طبيعة مالية غير شفافة تجعل العملية أقرب إلى تجارة بشر منظمة.

التحقيقات كشفت أن موقع “المجد أوروبا” مسجّل في آيسلندا، وأن المنظمة تقبل التبرعات عبر العملات الرقمية فقط، وهو ما يجعل تتبع مصادر التمويل شبه مستحيل. كما تبين أن الصور التي يستخدمها الموقع لتعريف “مديريه التنفيذيين” صور مزيفة تم إنشاؤها بالذكاء الاصطناعي، ما يضيف طبقة أخرى من الخداع ويشير إلى أن الجهة القائمة على الموقع ربما غير موجودة فعلاً على أرض الواقع. ورغم محاولات التواصل معها، لم تصدر أي ردود، ما زاد الغموض حول هوية القائمين عليها وأهدافهم الحقيقية.

وبالتوازي مع ذلك، بدأت جهات رقابية في جنوب أفريقيا طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة هذه الرحلات، وما إذا كانت تُستخدم لتهريب الأشخاص بطرق غير قانونية تحت غطاء الأزمة الإنسانية في غزة، خاصة أن هذه هي الرحلة الثانية خلال أسبوعين فقط، وأن القبول الإسرائيلي لخروج الفلسطينيين من القطاع بلغ 95% وفق الإعلام العبري، في نسبة غير مسبوقة تفسّرها كثير من الأصوات بأنها جزء من عملية تفريغ صامت للسكان.

كل هذه المعطيات تضع العملية في إطار مشروع تهجير مُغلّف بالإنسانية، تستخدم فيه منظمة رقمية غامضة عملات مشفرة وصورًا مُولدة بالذكاء الاصطناعي، بينما يتم تمرير الفلسطينيين عبر إسرائيل دون توثيق، وصولًا إلى دول بعيدة لا تعلم شيئًا عن القادمين إليها. إنها ليست رحلة سفر، ولا عملية إجلاء، بل شبكة كاملة نسجت خيوطها لاستغلال الحاجة والضيق، وتحويل المأساة الإنسانية في غزة إلى بوابة مفتوحة للتهريب والاقتلاع السكاني.

وهذا الملف يطرح أسئلة حساسة حول مسؤولية الدول والمنظمات الرقابية، وكيف يمكن حماية المدنيين من استغلال يُمارس بلباس العمل الإنساني، في وقت تتزايد فيه الأدلة على أن الأزمات الإنسانية باتت تُستخدم كممرات آمنة لمشاريع مشبوهة لا علاقة لها بالرحمة، بل ترتبط بتهجير الإنسان الفلسطيني من أرضه بصمت ودون رجعة.

Leave a Reply