Physical Address
304 North Cardinal St.
Dorchester Center, MA 02124
Physical Address
304 North Cardinal St.
Dorchester Center, MA 02124
على امتداد 18 عاماً من الانقسام والحصار والحروب المتتالية، تشكّل في قطاع غزة اقتصاد ظلٍّ متشعّب، ودوائر نفوذ تتسع داخل المؤسسات الحكومية والخاصة، في بيئة تغيب عنها الرقابة الفاعلة ويهيمن عليها منطق البقاء. هذا التحقيق يستند إلى معلومات جمعها معدّه عبر مقابلات ميدانية، ووثائق مالية، وشهادات موظفين سابقين وحاليين، وخبراء اقتصاد، لرسم صورة دقيقة عن منظومة فساد معقّدة تتغلغل في أكثر من مستوى.
أولاً: اقتصاد محاصر… وسلطات متعددة بلا رقابة
تُظهِر مقابلات مع موظفين حكوميين سابقين أن غياب المجلس التشريعي الفاعل منذ عام 2007، وتعطّل دور المؤسسات الرقابية، سمح بتراكم صلاحيات واسعة في يد جهات تنفيذية تمتلك السلطة والأمن والموارد، ما فتح الباب أمام تجاوزات في:
إدارة المساعدات الدولية
التعيينات الحكومية
توزيع الأراضي
منح الامتيازات التجارية
التحويلات المالية والمشاريع الخاصة
يقول موظف في وزارة مدنية — فضّل عدم الكشف عن هويته — إن “الأجهزة الرقابية موجودة شكليًا، ولكنها لا تمتلك صلاحيات فعلية، ولا تستطيع إلزام الجهات القوية بالشفافية”.
ثانياً: المساعدات.. المال الذي لا يمر عبر القنوات الرسمية
منظمات محلية ودولية تعمل داخل القطاع تؤكد أن جزءًا من المساعدات لا يصل إلى مستحقيه بسبب ثلاثة مسارات فساد أكثرها شيوعًا:
1. قوائم المستفيدين
تُحدَّث القوائم عبر لجان محلية مرتبطة بجهات حزبية واجتماعية، ما يجعل الوصول للمساعدات يخضع لمعايير “القرب الاجتماعي والسياسي”.
2. إعادة بيع المعونات
يرصد معدّ التحقيق أسواقًا في غزة تُباع فيها سلع واضحة المصدر كمعونات إغاثية، مثل:
الأرز والسكر بزخارف أجنبية
السلات الغذائية المختومة بشعار منظمات
الأدوية القادمة ضمن مشاريع طبية
تجار أكدوا أن بعض موظفي المؤسسات يبيعون حصصًا بطرق غير رسمية بعد تجييرها لصالحهم.
3. مشاريع “التنمية” المنفّذة على الورق
خبراء اقتصاد أشاروا إلى أن جزءًا من المشاريع التشغيلية الصغيرة التي تُعلن سنويًا لا يُنفّذ بالكامل، فيما تُصرف مبالغ على تجهيزات لم تصل، أو دورات تدريبية لم تُعقد.
ثالثاً: التعيينات الحكومية… بوابة النفوذ الأساسية
إحدى أكثر ملفات الفساد حساسية يتعلق بـ التوظيف.
بحسب شهادات موظفين، فإن التعيينات تعتمد على:
الولاء السياسي
العلاقات العائلية
الانتماء التنظيمي
وتؤدي هذه المنهجية إلى:
تضخّم جهاز إداري غير منتج
مجموعة موظفين بلا كفاءة
تفاوت كبير في الرواتب والامتيازات
موظف حكومي تحدّث عن “سُلّم وظيفي مفصّل لخدمة أشخاص بعينهم”، مع تجاهل للكفاءات في التعيين والترقية.
رابعاً: تجارة الأنفاق… من اقتصاد المقاومة إلى اقتصاد النخبة
قبل تدمير الأنفاق مع مصر، كانت الضرائب التي تُجبى على حركة البضائع عبر الأنفاق تمثّل مصدرًا ضخمًا للأرباح.
شهادات تجار تحدثوا عن:
أسعار مُبالغ بها للرسوم
وجود “أشخاص محددين” منحوا امتيازات تسمح لهم بالعمل بكميات كبيرة
غياب أي شفافية حول حجم الأموال المحصّلة
ورغم انتهاء هذه التجارة، إلا أن إرثها المالي لا يزال حاضرًا في شكل ثروات ظهرت فجأة ونشاطات تجارية توسّعت بعد عام 2014.
خامساً: الأراضي الحكومية… ملف حساس خارج الضوء
خلال المقابلات، أفاد خبراء عقاريون بوجود تجاوزات في:
تخصيص أراضٍ حكومية بأسعار متدنية لجهات محسوبة
تغيير صفة الاستخدام من زراعي إلى سكني دون مزادات علنية
بيع أراضٍ عبر لجان لا تعلن بياناتها أو مداولاتها
غياب نشر الخرائط وبيانات المزادات يجعل هذا الملف مغلقًا تمامًا أمام الجمهور.
سادساً: مؤسسات اقتصادية موازية
برزت خلال السنوات الأخيرة شركات ومؤسسات تجارية تابعة لجهات نافذة، ما أدى إلى:
سيطرة شبه كاملة على بعض القطاعات (الوقود، الاتصالات، مواد البناء)
تعطيل المنافسة
إرغام التجار الصغار على الالتزام بأسعار مفروضة
تحريك السوق بما يخدم مصالح جهات ذات نفوذ
خبير اقتصادي أكّد أن “الاقتصاد في غزة أصبح أكثر تمركزًا في يد شبكة مصالح مرتبطة بالسلطة والأمن والتمويل الحزبي”.
سابعاً: ابتزاز المواطنين مالياً… من الرواتب إلى السحب النقدي
في ظل انهيار القطاع المصرفي وغياب السيولة، ظهرت شبكات صرافة غير رسمية تستغل حاجة المواطنين للحصول على رواتبهم، إذ تفرض:
عمولات تتراوح بين 15% و50%
رسوم تحويل غير قانونية
شراء الشيكات المؤجلة بأسعار متدنية
غياب تدخل حكومي فعلي فتح الباب أمام سوق سوداء مالية تتضخم يومًا بعد يوم.
ثامناً: لماذا يصعب مكافحة الفساد في غزة؟
من خلال تحليل الوثائق والشهادات، تظهر أربعة أسباب رئيسية:
غياب الفصل بين السلطات
تعطّل المجلس التشريعي
هيمنة الأجهزة الأمنية على الملفات المدنية
ضعف المجتمع المدني والصحافة المستقلة
إضافة إلى ذلك، يخشى كثير من الموظفين والضحايا من التحدث علنًا بسبب الخوف من الملاحقة.
تاسعاً: ماذا يحتاج القطاع لفتح ملف الفساد؟
يرى خبراء أن أي إصلاح جدي يتطلّب:
إعادة تفعيل المجلس التشريعي
نشر الموازنات المالية والبيانات الضريبية
تمكين ديوان الرقابة من صلاحيات كاملة
ضمان حماية قانونية للمبلّغين
استقلال القضاء
إشراف دولي على المشاريع الكبرى والمساعدات
دون ذلك ستبقى محاولات مكافحة الفساد شكلية، فيما يستمر المواطن البسيط بدفع الثمن الأكبر.